حدثان بارزان يستوجبان الوقوف عندهما بما يقتضيانه من دراسة وتأمل عميقين . فالأمر لا يخص آحاد الناس ، بل يهم ــ بالدرجة الأولى ــ الحاكمين وجميع التنظيمات السياسية المسئولة عن تأطير المواطنين . الحدث الأول يتمثل في وصول تنظيمات الإسلام السياسي إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع في الدول التي عرفت ما بات يُعرف خطأ “بالربيع العربي” . ليس المشكل في وصول هذه التنظيمات إلى السلطة ، فهي في نهاية المطاف قوى اجتماعية وسياسية لها حق التنافس على الحكم ؛ بل المشكل في اقتناع هذه القوى الإسلامية بأن الدولة الديمقراطية هي مجرد محطة للانتقال إلى دولة الشريعة التي تمثل هدف كل التنظيمات الدينية ، معتدلة ومتشددة . ونتيجة لهذه القناعة تعالت الأصوات من داخل هذه التنظيمات، بمجرد ظهور نتائج الانتخابات التي أعطتها الفوز بالمراتب الأولى ، مطالبة بتطبيق الشريعة وإلغاء القوانين المدنية (حالة مصر ، تونس ). ورغم وضوح أهداف التيار الديني من الممارسة السياسية وآفاق دولة الشريعة التي يرنو إليها ، فإن الناخبين منحوا مرشحيه المراتب الأولى . وسواء أدرك المواطن أفق التيار الديني أو لم يدركه ، فتصويته لصالحه هو دعم لمشروعه المجتمعي الذي يقوم على أسس دينية وليست مدنية . وبسبب طبيعة المشروع المجتمعي هذا وخلفيات القوى السياسية الحاملة له ، لم يتم التنصيص في الدساتير الوليدة ، على مدنية الدولة وقوانينها . بل جاء التنصيص على أن الإسلام دين الدولة والمصدر الأساسي للتشريع . وبمقتضى نص الدساتير ، تكون الدولة دينية وليست مدنية طالما لم يُسمح فيها للمواطنين من الأقلية الدينية بالترشح لمنصب الرئيس . أما الحدث الثاني فقد كشفت عنه دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث ما بين عامي 2008 و2010 ، حيث تبين أن أغلبية المواطنين في الدول العربية تؤيد تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية . وبلغت هذه النسبة في صفوف المغاربة المستجوبين 83 في المائة . وهذا يطرح أكثر من علامة استفهام : أبَعْدَ كل التضحيات التي قدمها المناضلون ،وعلى مدى أربعة عقود يطالب 83 في المائة من مواطنينا بتطبيق الشريعة ؟ ألم يستفد المغاربة من التجارب السياسية المأساوية التي قامت على تطبيق الشريعة ( طالبان أفغانستان ، الصومال ، شمال مالي ) ؟ لماذا الحنين إلى الدولة الدينية ؟ لفهم هذين الحدثين ، ينبغي فهم الذهنية العربية/الإسلامية التي تشكلت على مدى قرون خلت ، حيث ارتبطت الدولة بالدين وتأسست على تحكيم شرعه . وتختزل تجربة الحكم الإسلامي في تجربة الخليفة عمر بن الخطاب الذي جسد بساطة الحاكم وعدله . وظلت هذه التجربة ملهمة للمخيال الجمعي ، خصوصا وأن التجارب السياسية التي أنتجتها الدولة الوطنية وكرستها في واقع الشعوب العربية كانت ولا زالت قائمة على الاستبداد والقهر . فهذه الشعوب ، ومنذ انعتاقها من ربقة الاستعمار ، ظلت تشنف مسامعها شعارات الديمقراطية البراقة ووعود الحكام المعسولة بالحرية والكرامة والعدالة ، دون أن تلمسها أو تنعم بمكاسب الديمقراطية التي تصون حقوقها وتضمن كرامتها وتكف بطش الحكام عنها . فالتجارب التي عاشتها الشعوب في ظل الدولة الوطنية رسخت في وعيها الجمعي أن العدل مرهون بالدولة الإسلامية ، دولة الخلافة ، وأن الظلم قرين الدولة الوطنية . فالمواطن العربي ، والمغربي جزء منه ، يسمع بدولة الحق والقانون لكنه يعيش واقع النهب والاستغلال والاستبداد دون أي مفعول للقانون ؛ بل القانون يحمي الفساد ويحصن المفسدين . من هنا فالمفارقة التي يلمسها ويعيشها المواطن بين الخطاب الرسمي والممارسة تغذي فيه الحنين إلى دولة الشريعة التي يجسدها الخليفة عمر الذي ، كما ارتبط في المخيال الجمعي ، كان العدل يجري على يديه ، ولا يروح المظلوم إلا وقد اقتص له الخليفة من ظالمه . بينما في الدولة الوطنية ، يعيش المواطن الاضطهاد بكل أشكاله ومستوياته دون أن يجد له سندا يحميه ، سواء قانونيا أو مؤسساتيا . إن الدولة الوطنية لم تجعل الممارسة الديمقراطية ذات مكاسب يلمسها المواطن العادي في الإدارة وفي الحياة العامة ،كما لم تحرره من الخوف الذي يطارده حتى داخل بيته وبين أهله ؛ إذ من شد الخوف والتوجس ، جعل للحيطان آذانا تلتقط همساته وللظلام أعينا ترصد تحركاته . ولو أن الدولة الوطنية نجحت في ترجمة شعرات الديمقراطية إلى واقع معيش يمارس من خلاله المواطن إنسانيته بكل حرية وكرامة ، فإن الحنين أو التطلع إلى نمط آخر للدولة يفقد دوافعه . وإنها لنتائج حتمية لعقود من القهر والاستبداد ، أن يطالب 83 في المائة بتطبيق أحكام الشريعة وليس قوانين الديمقراطية . ووجه الخطورة أن هذه النسبة المرتفعة من المواطنين تشكل خزان أصوات للتيار الديني الحامل لمشروع دولة الشريعة ، وكذا جيشا احتياطيا له القابلية المثلى للانخراط في معارك فرض الشريعة أيا كانت مستوياتها وأساليبها والجهات المطالبة بها . ذ ولعل تطور أعداد التيار السلفي الجهادي في تونس من أربعة آلاف حضروا الملتقى التأسيسي الأول عام 2011 ، ثم 20 ألف حضروا الملتقى الثاني في مايو 2012 ، إلى 40 ألف التي كان مقررا حضورها في الملتقى الثالث لأنصار الشريعة يوم 19 مايو الجاري ؛ لعل هذا التطور التصاعدي ينبئ بما ستؤول إليه الأوضاع في مستقبل الأيام إذا لم يصبح الإنسان في صلب اهتمام الدولة والأحزاب.
مواضيع ذات صلة
-
14 مارس 2023 - 22:30 “ملك إسرائيل” و”انقلاب البيجيدي”
-
28 يناير 2023 - 15:30 محمد بنموسى : لماذا قررت الاستقالة من حزب الاستقلال ؟
-
16 مايو 2022 - 09:40 اغتيال أبو عاقلة.. استغلال الدين بدل استحضار الجانب الإنساني
-
16 مايو 2022 - 09:20 أهكذا يمشي بك المشيعون لحفرة مظلمة بعيدا عن صخب الكرة !
-
07 مارس 2020 - 21:30 أشعر بالخوف
-
22 أغسطس 2018 - 21:13 لم نفقد الامل