ما يربط المغرب بالجزائر أكبر من التاريخ والدين واللغة والجوار … إلا أن كل هذه الروابط الخاصة والوشائج القوية، لم تستطع أن تهدم جدار الجفاء الذي دام لعقود بين البلدين!
كل شيء بدأ في الستينيات من القرن الماضي، حينما طالب المغرب بتسوية حدوده التي التهم الاستعمار الفرنسي جزءا منها ، علما أنها موثقة بوثائق تاريخية نؤكد علاقتها بالتراب المغربي، هذا في الوقت الذي تعتبرها الجزائر «حق طبيعي»، ومن ضمنها تندوف وكلومب بشار التي يشهد الاستعمار والمؤرخين والمعنيين أنها أراض مغربية تاريخيا.
لم تتوقف الأمور عند حدود المطالبة باسترجاع «الحقوق الترابية» للمغرب، بل تطورت إلى مواجهات بدأت من الجارة الجزائر التي اعتبرت مثل هذه المطالب غير مقبولة، وسقط الطرفين في مواجهات مسلحة بداية من أكتوبر 1963 حينما اندلعت حرب الرمال، واستطاع الجيش المغربي أن يصل إلى تندوف، لولا تدخل الملك الراحل الذي أمر ضباط القوات المسلحة الملكية بالتوقف ثم التراجع … إلى نهاية القصة التي جعلت الرئيس الجزائري أحمد بن بلة يصيح غاضبا «حكرونا لمراركة حكرونا».
كان لا بد من هذه الخلفية التاريخية للتأكيد على جزء من الأسباب الظاهرة للجفاء الذي ما يزال يطبع العلاقة بين الجزائر والمغرب، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي اشتهر بقوته وصلابته وفلسفته في مواجهة الخصوم والأعداء سياسيا وديبلوماسيا، عكس ما حدث في عهد الملك الحالي محمد السادس.
«الرجل هو الأسلوب» .. كما كان يقول الملك الراحل الحسن الثاني، فإذا كان للملك الراحل أسلوب المواجهة سياسيا، فإن محمد السادس اختار أن يكون منطق الفعل اقتصادي بالدرجة الأولى وبعيد عن ردود الأفعال.
منذ بداية حكم الملك محمد السادس، كان أكثر المتفائلين من المتتبعين لخارطة العلاقات الدولية، لا يعتقدون أن تتجاوز تحالفات المغرب في القارة الإفريقية بضعة دول من الأصدقاء التاريخيين: السينغال وساحل العاج ومالي … على وجه الخصوص، وقبل أن تمر العشرية الأولى من حكم الملك محمد السادس، ومع توالي الزيارات الماراطونية لعدد كبير من دول القارة السمراء، فهم الخصوم والأعداء أن العاهل المغربي يسير في طريق محددة الأهداف والوسائل، مغايرة لأسلوب والده الملك الحسن الثاني، وتأكدوا بعد توالي الزيارات أن التعاون الاقتصادي قد يذوب الحروب السياسية.
من مالي إلى ساحل العاج إلى الغابون والسينغال … إلى نيجريا وإيثيوبيا ورواندا وغيرها من الدول التي وإن كانت على يسار المملكة المغربية سياسيا، بالنظر لعلاقاتها التاريخية المميزة مع الجزائر وجنوب إفريقيا، فإنها لم ترفض التعامل والتعاون مع المغرب في الشراكات الاقتصادية وفي قضايا أخرى، إلى أن وصلت عدد الاتفاقيات التي أبرمها المغرب منذ سنة 2000 حوالي 500 اتفاقية، تمثل إفريقيا جنوب الصحراء 62.9 في المائة من الاستثمارات المباشرة الأجنبية المغربية في العالم، بينها 41.6 في المائة في القطاع البنكي، عبر القوة الضاربة التجاري وفا بنك.
القرب الاقتصادي أكثر فعالية من التجاوب السياسي، وحتى إذا كان الجفاء سياسيا فيمكن أن يذوبه العمل المشترك الاقتصادي. قد تكون هذه القاعدة هي التي اعتمدها الملك محمد السادس في تعاطيه مع القضايا الإفريقية، والتي توجت ليس فقط بعرس العودة إلى الاتحاد الإفريقي، وإنما بالتقارب مع الدول التي ظلت تحسب على المحور الجزائري والجنوب إفريقي.
لم يربح المغرب فقط، اقتصاديا وسياسيا، في علاقاته الثنائية مع دول القارة السمراء، وإنما تمكن من أن يزيح «البعبع» الجزائري من التربع الجزئي على عرش إفريقيا، فكانت الصفعة الأكبر حصول المغرب على صفقة نقل الغاز الطبيعي من نيجيريا إلى المغرب مرورا بعدد مهم من الدول الإفريقية، وتابع الملاحظون كيف أن زيارات الملك محمد السادس إلى دول إفريقيا تكون في موعد دقيق ومحسوم، لدرجة أن كل الزيارات كانت بفائدة، حتى مع الدول التي كانت تساند البوليساريو والجزائر، مثل نيجيريا التي أبرم معها صفقة القرن لنقل الغاز الطبيعي، ورواندا المساند التاريخي للبوليساريو التي لعب الهولدينغ الملكي «الشركة الوطنية للاستثمار» دورا حاسما إلى جانب «التجاري وفا بنك» باعتبارها أكبر مجموعة مصرفية، من الاستثمار في عدد من الدول الإفرقية مثل رواندا، حيث اشترت مؤسسة «كوجنيك».
من التجاري وفا بنك ومجموعة الشريف للفوسفاط واتصالات المغرب ومجموعة سهام والبنك الشعبي ووفا للتأمينات ثم «يينا» هولدينغ والضحى … إلى غيرها من المؤسسات العملاقة في الاقتصاد الوطني، أو كما يسميهم أهل الاختصاص بـ«الأبطال الاقتصاديون الوطنيون» … تمكن الملك بديبلوماسية مغايرة تعتمد قانون القرب الاقتصادي من إزاحة الجزائر من المشهد الإفريقي.